خالد البكاري يكتب: Je suis Palestinien

24 ديسمبر 2020 - 07:00

مع كل مأساة ينتشر هاشتاغ يبتدأ بـ”أنا / Je suis / I’m” متبوعا باسم الضحية أو مكان الجريمة، ويبقى هاشتاغ jeSuisCharlieHebdo#  أشهرها.

“أنا فلسطيني” أول ما تبادر لذهني، وأنا أفكر أنه في الوقت الذي ستكون هذه الكلمات بين أيدي هيئة تحرير الجريدة، ستكون طائرة “العال” الإسرائيلية تقتحم المجال الجوي المغربي، حاملة في جوفها الطلائع الأولى التي ستدشن الرحلات المباشرة بين مطارات بلدي ومطارات دولة الاحتلال الإسرائيلية.

 لا أخفي وجعا مقيما في الوجدان، ليس بسبب التطبيع، فتلك خطوة لم أكن أستبعدها يوما، وإن كنت لم أتوقع أن تكون في هذا التوقيت، غير المتناسب مع تبريرها بالمساعدة على التقدم في مسارات التسوية، في ظل أكثر حكومات إسرائيل عنصرية وتوسعية وتقويضا لممكنات السلام.

إنما الوجع مصدره أن تكون مضطرا لتبرير أن قولك “أنا فلسطيني” ليس خيانة، وليس تنصلا من انتماء للمغرب، وليس استلابا قوميا، وليس خللا في الأولويات…

وجع في سياق تسيدت فيه شيطنة “شوفينية” مدوزنة” على مقام: “من ليس معنا، فهو معهم”، وتتساءل: من هم هؤلاء “المعهم”؟ وهذا الطابور الخامس الذي يحشرون فيه كل مختلف، يشتغل لصالح من؟ ومن هم أعداء الوطن الذي نتهم بخدمتهم إذا قلنا “نعترض”؟

هذا التجييش الذي يجعل كامل الجوقة تكرر المعزوفة عينها دون ملل، يشبه ركض الجموع خلف “توم هانكس” في فيلم Forrest Gump .

تسعفني الذاكرة، فأعود للابتسام أمام شريط أحداث شكلت المعنى في دفق نهر لا نستحم فيه أكثر من مرة.

أعود لثانوية مولاي رشيد بطنجة نهاية الثمانينيات، ويطالعني وجه فاتن (ب)، كانت تلميذة تتحدر من عائلة بورجوازية، لكنها كانت متعلقة بالقضية الفلسطينية، ستخبرني لاحقا أن ذلك بتأثير من خالها الشيوعي.

فاتن بدورها مارست انتحارا طبقيا بلغة تلك الأيام، وكانت ترافقنا نحن عصبة حالمين من طبقات دنيا، فقد كان موقع ثانويتنا يجعلها تضم تلاميذ قادمين من عائلات “فيلات” عشابة والجبل الكبير، وآخرين من الأحياء الشعبية (الدرادب والمصلى والسواني).

كانت الثانوية تطل على مقر القنصلية الأمريكية التي كانت تمثل استفزازا لوعينا المسكون بمسلمة “أمريكا عدوة الشعوب”، وكذلك على عمارة كان يقطنها الروائي بول بولز.

كنا نحب بولز الأمريكي الذي كان آخر من بقي في طنجة من أدباء عالميين قدموا إليها زمن كانت دولية، وكنا نكره القنصلية الأمريكية، هكذا كنا نحب أمريكا، ونكره أمريكا أخرى.

حدثتني فاتن عن رغبتها في كتابة عبارات غاضبة بالصباغة على أسوار القنصلية الشاهقة، تلك القنصلية التي كانت كبيرة ومنيعة لدرجة كنا نعتبرها مقرا للمخابرات الأمريكية.

طبعا، لم نكتب شيئا على تلك الجدران، فقد كانت الحراسة مشددة، لكن فاتن كانت تكتب فوق الطاولات: الثورة آتية لا ريب فيها، أما أنا فكتبت يوما: نحن مع السلام، وضد الاستسلام، وثورة حتى النصر، وهي عبارة كنت قد وجدتها في صورة على غلاف ديوان شعر، لأكتشف بعد سنوات أنها كانت جزءا من البيان الذي أصدرته منظمة التحرير بعد اتفاق كامب ديفيد.

انقطعت عني أخبار فاتن، بعدما تحقق حلمها بالذهاب إلى فلسطين، فقد تزوجت وهي طالبة في كلية الآداب بالرباط من فلسطيني، إلى أن أرسلت لي رسالة عبر الماسنجر، فكان التواصل ثانية مقتصرا على المعايدات والسؤال عن الأهل والصحة، تجنبنا الحديث عن “الثورة التي لا ريب فيها”، فلسان الخيبات كان يقول: هرمنا، ولم تأت اللحظة التاريخية.

رفاق تلك الأيام لا شك يذكرون: فاتن وليلى وكريم وحسن.. ومجلتي: “الطريق” و”الشروق”، والاحتجاجات، واعتقالات في الكوميسارية “سنترال” تنتهي بإطلاق السراح بعد وجبات صفع وشتائم.

وقبلها في إعدادية ابن خلدون، ستكون مقدمات إدمان شعر درويش، مع أستاذ العربية ميلود، الذي كان طويلا ويشبه هوشي منه بلحيته، وبعدها الانخراط بالجمعية المغربية لتربية الشبيبة، التي لازلت أحن لأيامها بدار الشباب “حسنونة”، وخصوصا لترديدنا نشيد “يمشي على الجمر شبل، طفل ولكن يقاتل”، ومع آباء من طينة الحداد والزايدي وأقبيب رافقنا الحلم الفلسطيني على وقع أغاني مجموعة “أجراس”، كانت المحامية سعاد الشنتوف أحد أصواتها الصادحة بالحلم والتحدي في مثل سننا، ولكن كانت تسبقنا وعيا، وليعذرني من نسيت أسماءهم، فما أنسانيها سوى خريف العمر والخيبات والعجز. فبرفقة هؤلاء أدمنت وما أزال: فرقة العاشقين، ومصطفى الكرد، وخالد الهبر، ومحمد بحر، وسعيد المغربي.

في سنة 1986، ومباشرة بعد انتهاء المقابلة التي أهلت المنتخب المغربي لمونديال المكسيك، بعد انتصاره على ليبيا، كتبت فوق لوحة “كما تأهلنا للمكسيك، سنصلي في القدس”.

وتحقق الوعد مقلوبا، وأدركنا اليوم الذي بإمكان البعض أن يصلي في القدس محمولا على جناح طائرات “العال” الإسرائيلية، وهي في طريقها لتصبح عاصمة “إسرائيل” بعد نقل السفارة الأمريكية إليها.

هذه “الأمريكا” التي تصنع الخرائط والحقائق..

سنتان بعد ذلك، ستغطي مجلة “الصقر” كأس إفريقيا التي أقيمت بالمغرب، وأتذكر أنها قامت بحوارات مع لاعبي منتخبنا، وكان من بينها سؤال “لمن تهدي باقة ورد؟”، وأجاب كثيرون، وكانت انتفاضة أطفال الحجارة في أوجها “للجنود المغاربة في الصحراء ولأطفال الحجارة”.

لم يكن يومها هذا “الشونطاج” الوقح بين عدالة القضيتين قائما، فالحق في استكمال وحدة التراب يعرف بالحق، وليس باعتراف مغموس في كأس “المقايضة”.

حين زار بيريز المغرب، والتقى الحسن الثاني صيف 1986، كنت في عطلة ببلدتنا “تموروت”، كان مدمنو الأخبار عبر الراديو من كبار العائلة يتناقشون الحدث باستغراب، حتى قال عمي “موح”: المعلم عمل بالمثل: “إذا كانت حاجتك عند الكلب، قولو سيدي”.

كنت بالكاد أبلغ 13 سنة، عاجزا عن فك مغاليق السياسة، لكني استطعت أن أتخيل بيريز على شكل كلب، لكن لم أستطع ببراءة الطفل أن أتصور الحسن الثاني/المعلم بهيبته يخاطب شخصا بـ”سيدي”.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

nassim badir منذ 3 سنوات

الحق يعلو ولا يعلى عليه ولن نتخلى عن القضية بمجرد الخيانات المتتالية فليطبع من أراد أن يطبع أما نحن فعلى الدرب ماضون والنصر آت إن شاءالله

التالي