محمد جليد يكتب: الملكية بين عيد التذكار وعيد العرش!

29 يوليو 2020 - 18:00

بُعيد اعتماد الدستور الجديد سنة 2011، جالست أحد المهتمين بالعلوم السياسية، وهو من العارفين الذين خبروا النظام السياسي المغربي نظريا وعمليا. سألته حينها، وقد اقترب عيد العرش، عن الدور الذي ستلعبه الملكية في ظل النظام الدستوري الجديد. أجابني بإيجاز شديد بأن عيد العرش المقبل سيحدد أركان الإجابة عن السؤال؛ ومن ثمة، سيسمح بمعرفة طبيعة التحول الذي سيطرأ على الملكية وأدوارها السياسية والاجتماعية.

بعد أيام من ذلك، جرت مراسيم الاحتفاء الرسمي بعيد العرش على الطريقة المألوفة، بطقوسها المعهودة وخطابها المعتاد الموجه إلى الأمة. لكن هذا الأستاذ، الذي جالسته بعيد الاستفتاء الشعبي على وثيقة الدستور الجديدة، كان قد افترض أن طقوس عيد العرش ستستعيد في الغالب الإرث الذي نشأت فيه، خلال ثلاثينيات القرن الماضي، بإيعاز من بعض رموز الحركة الوطنية. وقد كان مقتنعا في هذا الافتراض بأن الأجواء التي جرى فيها اعتماد الدستور الجديد شبيهة بالسياق التاريخي الذي أعقب اتفاق فاس، والذي برزت على إثره نخبة وطنية في أهم المراكز الحضرية (الرباط، سلا، تطوان، فاس)، تحمل أفكارا متطورة حول الأمة والوطنية. كانت هذه النخبة المتأثرة بالأنوار الأوربية ترى أن المغرب يمثل وحدة جغرافية وسياسية وثقافية؛ أي دولة-أمة. وإذ كانت هذه النخبة ترى أن المغرب حينها كان في حاجة إلى جملة من الرموز والصور والمفاهيم لتعزيز المشروع الوحدوي، والربط بين البعد المحلي المتمثل في القبيلة واللغة والانتماء الشمولي الذي يجسده الإسلام، فإنها لم تكن تستثني من ذلك السلطة ونظام الدولة. وقد تعزز الشعور بالحاجة إلى هذه الرموز والصور والمفاهيم بعد صدور ظهير 16 ماي 1930.

ولِقَدْحِ المتخيل الجمعي، قررت مجموعة من الوطنيين الشباب، خاصة أولئك المتحلقين حول الزعيم محمد بن الحسن الوزاني، الذين كانوا يشكلون فريق مجلة «المغرب» وصحيفة «عمل الشعب»، إعلان تأسيس حدث وطني للاحتفاء بذكرى تولية السلطان محمد بن يوسف العرش، واعتباره مناسبة تعبر عن الوحدة الوطنية، وتجسد التحام المغاربة حول التطلعات والانتظارات الجماعية بالتحرر أولا، ثم نشر أفكار الحركة الوطنية ثانيا، لكن، دون إثارة حفيظة السلطات.. هكذا تقول الأدبيات الموروثة عن هذه الحركة. فكرة الاحتفاء بعيد العرش نفسها مستوحاة من الاحتفالات الرسمية المصرية المسماة «عيد الجلوس»، والتي كان يستغلها حزب الوفد لتنظيم احتفالات عمومية علنية تمجد الشعور الوطني وتستنكر الاحتلال البريطاني. راجت الفكرة في البداية بواسطة الجزائري محمد الصالح ميسة، صاحب مجلة «المغرب» التي كانت تصدر بالعربية في الرباط، قبل أن يتبناها الوزاني وفريق جريدة «عمل الشعب» ويدافع عنها في سلسلة من المقالات المتتابعة المنشورة على امتداد سنة 1933، والتي كانت تدعو إلى جعل هذا اليوم «عيدا وطنيا شعبيا ورسميا للأمة والدولة المغربيتين»، على أن تتأسس لجان في المدن تناط بها مهمة إقامة هذه الاحتفالات. أطلق على هذا العيد اسم «عيد التذكار» في البداية، ولم يعرف باسمه الحالي إلا في فترة لاحقة. هكذا يقدم لنا محمد بن الحسن الوزاني، في الجزء الثالث من مذكراته، السياق الذي فرض الاحتفاء بتولي السلطان محمد بن يوسف العرش يوم 18 نونبر 1927.

بين اللحظة المؤسسة لهذا العيد، والتي كانت تتميز بإلقاء خطابين أحدهما للسلطان والثاني للحركة الوطنية، واللحظة الراهنة، جرت مياه كثيرة تحت الجسر. إذ شهد المغرب أحداثا سياسية واجتماعية، بعضها كان قويا للغاية، مثل انقلابي سنتي 1971 و1972، وبعضها كان حافزا على إدخال إصلاحات على نظام إدارة شؤون البلاد. ولعل ما حدث سنة 2011 من اهتزازات في شوارع وساحات المدن العربية والمغربية شبيه، إلى حد ما، بنقطة الانطلاق. ففي الثلاثينيات، كانت شرارة المطالبة بالاستقلال قد انطلقت على واجهتين؛ النضال السياسي ممثلا بالحركة الوطنية والعمل المسلح ممثلا برموز المقاومة. أما في سنة 2011، فتعالت الحناجر تنادي بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. ولأن حركة 20 فبراير رفعت شعار الملكية البرلمانية في بعض خرجاتها الاحتجاجية، ولأن الدستور الجديد أدخل بعض التعديلات على أدوار الملكية، وخول رئاسة الحكومة صلاحيات لم تكن تمارسها بموجب الدساتير السابقة، فإن الجميع توقع أن تلبس الملكية جبة جديدة، من شأنها أن تدخلها نادي الملكيات الغربية، على أن يصبح دورها رمزيا في المدى المنظور. لكن، مع مرور السنوات، تبين أن الملكية مازالت تحافظ على صلاحياتها وموقعها وقوتها وحضورها في الفضاء السياسي العام. ومع ذلك، يبقى التساؤل مشروعا: هل ستغير الملكية جلدها؟ رغم أن الظروف السياسية الراهنة لا توحي بأي تغيير من هذا القبيل، فإن المستشار الملكي، عمر عزيمان، كان قد لمح إلى ذلك عندما أدلى بتصريحات لوكالة الأنباء الفرنسية منذ نحو عام، مفادها أن المغرب «على طريق ملكية برلمانية»، وإن قال إنه «مازالت ثمة ربما بعض المقتضيات التي يلزم تجويدها».

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي