يونس مسكين يكتب: ضربة سوء حظ

27 يوليو 2020 - 19:00

تستدعي الأرقام التي يكشفها عدّاد الحالة الوبائية الخاصة بفيروس كورونا، خلال الأيام القليلة الماضية، وقفة خاصة ومراجعة شاملة لكيفية تموقعنا في هذه المعركة الكونية التي تخوضها البشرية ضد قاتل مستجد. فتجاوزُ الحصيلة اليومية للإصابات عتبة الـ800 حالة في يوم واحد، لا يسمح بأي قدر من التجاهل أو الاستهانة بالوضعية الصحية في المغرب، خاصة أننا نتابع نموذجا مخيفا في مدينة طنجة، لما سيكون عليه الوضع العام للبلاد في حال حدث التطوّر نفسه في مجموع البلاد. فالمنظومة الصحية الضعيفة، والمنخورة أصلا، نالها من الإنهاك والاستنزاف جراء شهور الطوارئ الصحية ما لا يسمح لها بتحمّل أية طفرة وبائية جديدة.

الرقم المخيف لعدد الوفيات التي باتت تسجل يوميا، ومعه شبح عودة الحجر الصحي الشامل، كما بات المسؤولون يلوّحون به علنا، مع ما يعنيه ذلك من انتكاس جديد قد يأتي على ما تبقى من «مناعة» اقتصادية؛ كلّها معطيات أشعلت النقاش من جديد حول التفسيرات الممكنة لما يجري، من زاوية ترتيب المسؤوليات، ولو جزئيا، ومن ثم اتخاذ الخطوات الاحترازية اللازمة. والملاحظ في هذه النقاشات، التي يريد البعض أن يفرضها مقاربة وحيدة تسكنها روح تخلو من أي نسبية، هو هذا التصوير الكاريكاتوري للمواطن المغربي على اعتبار أنه مسؤول عن تدهور الوضع الوبائي لأنه «مستهتر»، ولا يلتزم بالإجراءات الوقائية.

نسجّل في البداية، ودرءا لأي تأويل أو استنتاج متسرّع، أن الأفراد يتحمّلون قدرا من المسؤولية في المنحى الذي تتخذه الحالة الوبائية العامة، لأن التباعد الاجتماعي والتعقيم وارتداء القناع الطبي سلوك فردي بالدرجة الأولى. لكن، من المجحف والمؤسف تحويل هذا الفرد المغربي إلى كبش فداء، وإلصاق تهمة التفريط به وحده كلما تدهور الوضع، مقابل المسارعة إلى رسملة عائد الإيجابيات التي تتحقق كلما تحسّنت الأوضاع. ولهواة منطق «طاحت الصمعة علقو المواطن»، نتساءل بكل هدوء وموضوعية: هل يلقى المغربي ومعاملة المواطن الاعتبار اللازم من جانب السلطة وهي تخطط وتقرر وتضع السياسات، حتى نسارع إلى محاسبته ومطالبته بالمواطنة الكاملة تجاه المصلحة العامة؟ هل تقدّم الدولة للمغربي الحد الأدنى من حقوق المواطنة، من تمكين لإرادته واحترام لاختياراته واستثمار لما يدفعه من ضرائب ويحوزه من ثروات في تعليمه وسكنه وصحته؟

ليس الأمر هنا بحثا عن الأعذار أو محاولة لنقل المسؤولية من «الشعب» إلى «الدولة»، بل مجرّد دعوة إلى التحلي بقدر من الإنصاف والموضوعية، وتجنّب خلط الأوراق، لأن ذلك سيجعل مهمة الخروج من الجائحة أصعب وأكثر كلفة. لا يمكن أن تكون ذاكرتنا قصيرة إلى درجة ننسى معها أن الدولة دبّرت الجائحة بحرص على حفظ الحد الأدنى (السميك) من الضوابط الدستورية والقانونية والمؤسساتية، واستصدرت لنفسها شيكا على بياض من خلال المبادرة إلى فرض حالة الطوارئ بطريقة مباشرة غطّتها مصادقة «شبه برلمانية»، ودفعت بتقنوقراطها ومعيّنيها إلى الخطوط الأمامية، بشكل وضع جميع مظاهر التمثيل والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات وتنزيلها بين قوسين سميكين.

لقد أبانت الدولة ومؤسساتها عن قدر غير هيّن من المسؤولية والحرص على المصالح العليا للبلاد وحماية الأرواح وتحصين المنظومة الصحية، وبادرت إلى إطلاق عملية تضامنية وطنية غير مسبوقة من نوعها وحجمها، وقدّمت دعما لا يمكن أن يبخسه عاقل، كما صدرت قرارات تدبيرية لا تقدم عليها إلا الدول الراسخة في السيادة والوطنية، من قبيل الإصرار الجريء على استعمال دواء الكلوروكين، وتوفير احتياطي محلي استراتيجي من الأقنعة… لكن هذا النصف المملوء من الكأس لا يعني، بأي شكل من الأشكال، التغاضي عن النصف الفارغ. وكلا الشقين جزء من حصيلة التدبير الرسمي للجائحة، ولا يمكن أن تكون «الزينة» للدولة و«الخايبة» للشعب.

حذار من أن نعتبر مثل هذا التحليل دعوة إلى تحميل المسؤولية كلها للدولة، لكن، في المقابل، يجب ألا نبحث عن تمكينها من أي «صك غفران» مادامت قرّرت ودبّرت ونفّذت، واستفادت في كل ذلك من تعاون ومشاركة غير هيّنين من لدن المجتمع. والإنصاف في المرحلة الحالية، يستدعي طرح بعض الأسئلة من قبيل: ألم نتأخر في اتخاذ قرار إغلاق الحدود بما أن الفيروس كان في المرحلة الأولى عنصرا خارجيا بشكل كلي؟ هل كان ضروريا انتظار إعلان منظمة الصحة العالمية الوباء جائحة عالمية كي نقدم على هذه الخطوة؟ ثم، هل كان الإغلاق الشامل الخيار الأمثل في وقت كانت دول عظمى وذات إمكانات اقتصادية ضخمة، كبريطانيا وألمانيا وكوريا، تتخذ خيارات أخرى تتراوح بين التوعية والتشخيص وبين «الرقص» للجمع بين مقاومة الوباء والحفاظ على حيوية الاقتصاد؟ لم يقل الخبراء منذ البداية إن قدرة المجتمعات، بغض النظر عن مستوى وعيها وثقافتها، لن تستطيع صبرا أكثر من شهر أو شهرين من الإغلاق؟

ما نحصده حاليا، في المجالين الصحي والاقتصادي، هو نتيجة مباشرة لما أقدمنا عليه من اختيارات منذ الأيام الأولى للجائحة. وما جرى في الحقيقة هو أننا راهنا على فترة لا تتعدى الشهرين أو ثلاثة أشهر من الوباء، واعتقدنا أننا بالإغلاق الشامل لفترة قصيرة سوف نتجنب الانتشار الواسع للفيروس، ونخرج بأقل الخسائر لنستدرك ما فاتنا في الاقتصاد. إنها لعبة مقامرة راهنا فيها على الفوز بـ«ضربة جزاء»، لكن المباراة امتدت إلى أشواط إضافية مرهقة سجّل علينا خلالها الفيروس أهدافا كثيرة لم نستطع صدّها بعد الإرهاق والاستنزاف اللذين أصابانا. حاولنا أن نفوز بضربة حظ، وها نحن نتلقى الأهداف بسبب ضربات سوء الحظ.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي