يونس مسكين يكتب: أفلسنا ولم ننجُ

29 يونيو 2020 - 18:00

إذا كتب لنا الخروج بأقل الخسائر البشرية من جائحة كورونا التي تعصف بالعالم حاليا، فإن الفضل سوف لن يعود إلى التدبير الرسمي ولا إلى الوعي الشعبي، بل ستكون كلمة السر في تحليل «الحالة المغربية» هي الفوضى. لقد كتبت كثيرا في هذا الركن عن فكرة «الرقص» مع الفيروس، ودعوت إلى اعتمادها بشكل أو بآخر، لكن الرقص مع الفيروس، تماما مثل الرقص مع الثعابين، لا يكون دون سابق تدريب وتخطيط. ما نعيشه منذ عشرة أيام يستعصي على أية محاولة للفهم والتفسير، إذ أقدمنا على الخروج فجأة، نعم فجأة، ودون سابق تخضير، لنعانق كورونا ونلتحم به، في الوقت الذي تسجّل فيه الأرقام الوبائية أرقاما قياسية. وإذا كان علماء الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا وعلماء النفس يتفقون على فكرة الأمد المحدود لدى المجتمعات للصبر وتحمّل الإجراءات الاستثنائية للإغلاق والحجر الصحي، فإن ما حصل عندنا هو أن الإعياء أصاب السلطات أيضا.

لنتفق أولا على أن مواجهة جائحة كورونا، على الرغم ما يبدو عليه الأمر من تعقيد ومساحات كبيرة للغموض، لا تخرج عن إحدى خانتين: الإغلاق والتباعد الاجتماعي لتسطيح المنحنى والتحكم في سرعة انتشار الفيروس، أو التعامل معه كمعطى ثانوي، والخروج لمواصلة الإنتاج مع اتخاذ احتياطات فردية وجماعية لمنع تفشي الوباء بالشكل الذي يعيق استمرار الدورة الاقتصادية. لا توجد أي من دول العالم خارج دائرة الاختيار بين الخانتين، أو القفز بينهما حسب معطيات الوباء والاقتصاد. عندنا جرى اختيار الخانة الأولى، أي التباعد الاجتماعي المفروض بقوة القانون، وهو ما نوّه به الجميع في البداية، لأنه جعل بلادنا تظهر في هيئة الدولة الحريصة على أرواح مواطنيها، رغم اقتصادها المتواضع.

لكن ما حدث منذ عشرة أيام هو أننا انتقلنا، فجأة، من خيار الإغلاق والتباعد الشامل، إلى خيار الغطس في بحيرة الوباء والاستحمام الجماعي فيها. هو انتقال مفاجئ لأن أقوى الدول اقتصاديا وأكثرها تعليما ووعيا قامت بهذا الخروج بشكل تدريجي، وبعد التأكد من ترسيخ الثقافة القائمة على إسهام الجميع في مقاومة الوباء عبر إجراءات الوقاية والتباعد، إلا عندنا، فقد جرت عملية الخروج في ظل خطاب -إذا اعتبرنا أن هناك خطابا رسميا أصلا- وسلوك يوحيان بأننا هزمنا كورونا وطرحناه خارج مجالنا الجغرافي والتاريخي، وما علينا سوى العودة إلى حياتنا الطبيعية تحملنا رغباتنا الجامحة في الاختلاط والاستجمام، والتي سبّبتها شهور الطوارئ الصحية الطويلة.

إن ما نحن بصدد القيام به حاليا لا يعتبر، بأي حال، نوعا من «الرقص» مع الفيروس كما طوّرته أمم أخرى. والذين قاموا بنحت هذه الاستعارة للتعبير عن واحد من أساليب التعاطي مع الجائحة، كانوا يلمحون إلى فنّ راق بقواعد دقيقة في الحركة والخطو والسكون، وما نقوم به حاليا لا ينضبط لأي من فنون الرقص، بقدر ما يحيل إلى قرار بالالتحام مع الوباء، وتجسيد واحدة من أبشع صور المراهنة على مناعة القطيع. فهل يعقل أن نتوقّع من المجتمع قدرا من الاحتياط والحذر، ونحن نحوّل المعطى الإحصائي اليومي إلى مطية للتراشق والتردّد، لنحوّله من ندوة صحافية يومية قصيرة بموعد ثابت، إلى مجرّد فقرة نجت من الإلغاء لتسقط ضيفا ثقيلا على الشبكة البرامجية للقنوات الإعلامية العمومية؟

إذا كنا اليوم نبدي هذه الثقة المطلقة في الخروج بصدور عارية لمواجهة الفيروس، فإن على أحدنا أن يخرج لتقديم الحساب، وتفسير سبب قيامنا بهذا الإغلاق الشامل للاقتصاد منذ نهاية شهر مارس. فمنظومتنا الصحية مازالت على سابق عهدها، والوباء ماض في انتشاره المتصاعد في جميع أنحاء العالم، وأثناء كتابة هذه السطور يفترض أن تكون الإحصائيات الرسمية قد تجاوزت عتبة العشرة ملايين مصاب ونصف المليون وفاة بسبب هذا الفيروس. وإذا كان رئيس الحكومة يصرّ في خرجاته النادرة على أن إجراءات الطوارئ الصحية قد جنّبتنا خسارة مئات الأرواح، ولا أدري لماذا علينا أن نصدّق هذه الادعاءات، فيما نتابع كيف كذّبت التقلّبات الوبائية التوقعات الرسمية بتجميع المصابين في مستشفيين اثنين؛ فإن على أحد المسؤولين أن يشرح لنا كيف جنبتنا حالة الطوارئ الصحية كارثة إنسانية في مرحلة كانت الإصابات اليومية خلالها تقدّر بالعشرات، فيما علينا الآن أن نخرج إلى الحياة مطمئنين حين أصبح العداد يشير إلى مئات الإصابات يوميا؟

لقد سبّبت إجراءات الطوارئ الصحية كارثة اقتصادية قد تمتد تداعياتها إلى سنوات طويلة، ومن شك في ذلك فما عليه إلا ترك المؤشرات الرسمية وغير الرسمية التي صدرت حتى الآن، ويخرج إلى شوارع المدن ليشاهد حجم جيش المتسوّلين والبؤساء الذين تقدموا الخارجين من مرحلة الإغلاق الشامل. وإذا كنا اليوم سنعود لبناء المستشفيات الميدانية ومتابعة منحنى الإصابات النشيطة وهو يستأنف صعوده السريع، فإن علينا أن نفهم لماذا تأخرنا في رفع الحجر الصحي إن كان عديم الجدوى؟ هل على المغاربة اليوم أن يواجهوا خطر الموت بعدما ذاقوا مرارة التفقير والحرمان من مصادر الرزق، أم إن هناك اكتشافا علميا يؤكد مناعة المغاربة القوية ضد الفيروس التاجي بفضل ما مرّ عليهم من أوبئة ومعاشرتهم الطويلة لمرض السل؟

أخشى أننا أمام فشل غير معلن لنموذج تمنينا جميعا أن يرسم لنا صورة تفرّد حقيقي بين دول العالم. فقد بادرنا إلى اتخاذ إجراءات الإغلاق والتباعد والحجر الصحي في وقت مبكر مقارنة بكثير من دول العالم، وأبدينا كثيرا من الصمود خلف متاريس السيادة ونحن نصرّ على استعمال دواء الكلوروكين الفعال… لكن «دخول الحمام ماشي بحال خروجو»، وما تابعناه من تردد وتخبط في اتخاذ القرارات الملائمة بعد نهاية الشهر الأول من الطوارئ الصحية، قد يجعلنا اليوم في وضعية «لا ديدي لا حب الملوك»، حيث خلّفنا ثقبا أسودَ مرعبا في اقتصادنا المنخور أصلا بالريع والهشاشة، ولم ننجُ من الجائحة التي تواصل اليوم زحفها علينا بابتسامة بلهاء.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

QAnonmaroc منذ 3 سنوات

هه هه هه يريدون تجربة مناعة القطيع في قطيع مريض بالسكري و ضغط الدم و غيرهما من الأمراض. هذا الشق الأول، و أما الشق الثاني من القالب فهو أنه إذا وقعت إصابات كثيرة و وفيات و لو بالمئات سيحملون المسؤولية للقطيع الذي لم يحترم الإجراءات التي تم فرضها. هكذا يكون المخزن قد أخلى مسؤوليته و رماها على الرعايا الذين تصرفوا بحماقة بمجرد رفع الحجر الصحي. و ماذا سيقولون عن الذين قد يموتون؟. بالما و الشطابا حتى لقاع لقبر. سيتم التخلص من أفواه لا تعرف سوى التسول و السب و أحياء أموات هم العجزة المتقاعدون و المرضى ما سيخفف العبء على الصناديق التي نهبها لصوص المال العام. المزاليط هم من سيتألم لأنهم أغبياء و مذلولين، أما من لديهم الإمكانيات المادية فلا يهمهم أن يهلك حتى ثلث المغاربة أو أكثر.

التالي