ثمة مشكلات كثيرة يمكن أن تتفجر مع التحلل من الحجر الصحي، وتتوسع صور التعبير عنها مع انتهاء حالة الطوارئ التي يتوقع سد قوسها مع العاشر من شهر يوليوز المقبل.
بعض هذه المشكلات لا ترجع جذورها إلى لحظة كورونا، بل ربما تمتد لزمن أبعد، وتجد أصولها في خيارات سابقة غير مدروسة.
من هذه المشكلات، الصراع المحتدم اليوم حول الكلفة المادية للتعليم عن بعد الذي قدمته مؤسسات القطاع، بين أولياء وآباء المتعلمين وبين أرباب هذه المؤسسات.
ثمة اختلاف واضح في توصيف طبيعة المشكلة، فأرباب القطاع الخاص يرون أنهم مثل غيرهم، نزلت عليهم هذه النازلة، ولم يكونوا مهيئين، كما الدولة ومؤسساتها، لمتطلبات التعليم عن بعد، وأنهم التزموا بتوجيهات الوزارة، وأبقوا على مستخدميهم، ولم يعلنوا عن انقطاعهم عن العمل، ولم يستفيدوا من أي دعم من الدولة، وأنهم لقاء ذلك، لا يمكن أن يقبلوا بتخفيض كلفة التعليم ومجاراة مطالب الآباء، وأن أقصى ما يمكن أن يقوموا به، هو أن توجه إليهم طلبات الآباء المتضررين من جائحة كورونا ممن توقفوا عن العمل لدراستها والاستجابة للفئة المستحقة للإعفاء أو التخفيض دون غيرها. أما أولياء وآباء المتعلمين، فلهم رأي آخر، فالقضية لا تتعلق بمساعدة اجتماعية يطلبونها من المؤسسات الخاصة، وإنما بتقييم الخدمات المقدمة في التعليم عن بعد، وقياسها إلى الخدمات المقدمة في التعليم الحضوري، ومطالبة أرباب هذه المؤسسات لتخفيض السعر بما يناسب تخفيض هذه الخدمات، خاصة وقد سجل فارق كبير بين هذه الخدمات، حتى افترضنا إكراهات التعليم عن بعد، وذلك لا على مستوى جودة التعلمات، ولا على مستوى الوعاء الزمني، ولا على مستوى بعض المواد التكميلية التي جرى الاستغناء عنها مطلقا.
إلى هذه الحدود تبدو أن المشكلة متحكم فيها، فالأمر لا يتطلب سوى أن تقوم الدولة في شخص الوزارة المعنية، أو الولاية أو عمالة الإقليم، بدور الوساطة لتقريب وجهات النظر. لكن القضية في بعدها الجزئي قد تتعقد إذا ما لجأ القطاع الخاص إلى مقولة حرية الاستثمار في القطاع الخاص، وأن الدولة غير مخول لها بالمطلق التدخل في الأسعار ولا الانتصاب كطرف لجهة معنية بما بمس مبدأ حماية الاستثمار الخاص.
المشكلة، ودائما في أبعادها الجزئية، ستأخذ أبعادا أخرى عند رفض الآباء لأداء الأسعار الأصلية، وإصرارهم على تخفيض الكلفة وإصرار أرباب القطاع الخاص على العكس، إذ ستصبح شواهد انتقال المتعلمين ورقة بيد القطاع الخاص، وسيتجه الآباء إلى نقل أبنائهم إلى مؤسسات أخرى أو إلى القطاع العام للتخلص من هذه المشكلة.
التوقعات تقول، بأنه طبقا لهذه الإشكالية، يمكن أن يتوجه أكثر من 10 في المائة من القطاع الخاص إلى التعليم العمومي، وأن المديريات الإقليمية ستتحول إلى ساحة حرب مفتوحة بين الآباء والقطاع الخاص.
إلى هنا تنتهي أبعاد المشكلة في إطارها الجزئي.
لننظر الآن إلى المشكلة في إطار شمولي أو كلي، فهذا سيسمح لنا بتعميق الرؤية أكثر. فمن المؤكد أن عدم الحسم السريع في هذه المشكلات، سيجعل القضية ذات بعد وطني، وسيكون على المؤسسات التمثيلية للطرفين أن تشعل الحراك على الدولة كل من جهته لإنصافه، ومن المحتمل جدا أن تعلن الهيئات الممثلة للقطاع الخاص عن إضراب وطني نهاية هذا الشهر تحسبا للسيناريو الأسوأ الذي يضر مصالحها.
المشكلة في بعدها الكلي، تكمن في نسبة تمثيلية هذا القطاع، وأيضا في جغرافيته، فهذا القطاع نما بسرعة، وربما وصل أو يتجاوز عتبة 15 في المائة.
قد يعترض معترض ويقول، إنها نسبة ضئيلة وغير مؤثرة، لكن المشكلة تطرح إذا استحضرنا جغرافية هذه النسبة أي 15 في المائة، والمركزة بشكل كثيف في المدن الكبرى، والشبه الخالية في غيرها من المدن، ففي هذه الحالة يصير القطاع الخاص في مدينة كالرباط أو الدار البيضاء بما يقارب 40 إلى 50 في المائة، بالمعنى الذي يفيد تشكل لوبي قوي يصعب التفاوض معه لأنه يملك ورقة إرباك السير التربوي في مثل هذه المدن، لا سيما العاصمة.
مؤكد أن الدولة تملك أوراقها للتفاوض مع هذا القطاع إذا كان الأمر يعني توازنها المالي وأشياء أخرى تدخل في تقديرات مصلحتها العليا، وتملك أيضا أوراق الضغط عليه إن استشعرت أن حلقة من حلقات السلم الاجتماعي قد تتهدد، لكن، في مثل هذه القضايا، لا تضع الدولة الأمن والسلم الاجتماعي في مثل هذه المضايق التي يمكن أن يستغلها تغول القطاع الخاص.
ليس القصد التنبيه إلى قنبلة يمكن أن تنفجر في أي وقت، وتجد طريقها للحل بطريقة من الطرق، فهذا هو التدبير الجزئي للمشكلة، وإنما القصد التنبيه إلى قضية استراتيجية، تتعلق بالأمن التعليمي، والتوازنات الدقيقة التي يجب تأمينها ومنها نسبة القطاع الخاص وجغرافيته وضمان إسهامه دون السماح له بالتغول الذي يربك معادلة استقرار السير التربوي.