“القبور مليئة برجال ظنوا أنه لا يمكن الاستغناء عنهم… “هكذا تحدث الجنرال شارل ديغول، لكن ومهما كان ديغول رجلا حكيما، فإن ليس كل الرجال ظنوا أنه لا يمكن الاستغناء عنهم. السي عبدالرحمان اليوسفي أحد أولئك الرجال الذين جرى الاستغناء عنهم في لحظة سياسية معينة، وهو بلا شك كان على وعي بقدوم ذلك اليوم، لكنه ظل واقفا له ما له، وعليه ما عليه.. شاء القدر أن يغادر السي عبدالرحمان وطنه في صمت وهدوء يشبهانه، هكذا حرمت جائحة كورونا الرجل من جنازة تليق بقامته وكانت بلا شك ستجمع شيعته، لكنها، أيضا، ستجمع المختلفين معه قيد حياته. جنازة اليوسفي تشبه إلى حد كبير ما أوصى به ديغول عندما غادر موقع السلطة، وفضل قضاء آخر سنوات حياته في قريته الصغيرة في الريف الفرنسي، إذ أوصى بألاّ يحضرَ جنازتَهُ رؤساء ولا وزراء ولا سياسيون، وألاّ يُحفَرَ على قبره إلاّ ما يلي: “شارل ديغول 1890-1970”.
غادرنا إلى دار البقاء السي عبدالرحمان اليوسفي ليطوي صفحة أخرى من تاريخ الرجال والسياسة في بلادنا. لقد كان السي عبدالرحمان شخصية استثنائية جمعت بين السلاح والسياسة، لكنها أساسا جمعت بين نبل السياسة وفضيلة النضال، هذه القدرة هي ما يجعل الرجل أحد الوطنيين النادرين الذين تعاملوا مع المغرب ومشاكل المغرب منذ الاستقلال إلى اليوم، بكثير من الحكمة والكياسة، واستطاع أن يعبر أمواجها المتلاطمة بسلام، إذ انتقل من معارض لنظام الحكم إلى وزير أول للمملكة. وفي سنواته الأخيرة طبع الملك محمد السادس قبلة على جبينه تختصر كل عبارات وكلمات الاعتراف والعرفان، ليس فقط لشخص اليوسفي، ولكن لجيل من السياسيين الذين لم يصلوا في يوم ما إلى فجور الخصومة في صراعهم مع النظام.
عندما خلف السي اليوسفي الراحل الكبير عبدالرحيم بوعبيد، كان المغرب مقبلا على تحولات كبيرة قادها وطنيون نادرون منهم المرحوم السي امحمد بوستة، المرحوم السي عبدالله إبراهيم، المرحوم السي علي يعتة والكبير السي بنسعيد آيت يدر أطال لله في عمره، تلك التحولات هي التي حكمت مصير المغرب اليوم وساهمت في الانتقال السلس للمُلك، وجنبت المغرب انفجارا اجتماعيا هو حصيلة طبيعية لسنوات عجاف في السياسة والاقتصاد، لكن في اعتقادي، وأنا من الجيل الذي بدأ العمل السياسي في تلك الفترة، الأهم بالنسبة إلي؛ هو مساهمة أولئك القادة ومن بينهم السي عبدالرحمان، في إعادة اللحمة للقوى الوطنية ولنفسها الممانع، وشكل تأسيس الكتلة الديمقراطية، لحظة فارقة في التاريخ السياسي لبلادنا، وهو إنجاز مع الأسف لم نستطع صيانته والحفاظ عليه، وأعده أكبر خسارة للمغرب في العقد الأخير.
يغادرنا السي عبدالرحمان وصدى محاضرة بروكسيل لازال في أذهاننا وحديثه عن إحداث “القوة الثالثة” وأدوارها والثمن الباهظ الذي قدمته بلادنا في التنمية والديمقراطية، وخاصة قوله عند ختام المحاضرة التي ألقاها ببروكسيل سنة 2003: “واليوم، وقد انتهت هذه التجربة (يقصد تجربة التناوب التوافقي) بدون أن تُفضي إلى ما كنا ننتظره منها، بمعنى التوجه نحو الديمقراطية عبر خطوات تاريخية إلى الأمام، التي ستشكل قطيعة مع ممارسات الماضي، فإننا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام متطلب وطني يلزمنا بالانتظار سنتين على أمل أن نرى إمكانية تحقق الحلم في انتقال هادئ وسلس نحو الديمقراطية، ونتمنى أن لا نفقد في المستقبل القريب ملكة الحلم والقدرة عليه..”.
يغادرنا السي عبدالرحمان ونحن لازلنا قابضين على الحلم كمن يقبض على الجمر، يغادرنا وهو يقدم عبر تاريخه الطويل، خصلة الوفاء وشجاعة القول ونبل المواجهة عندما تكون ضرورية، لكنه يقدم أساسا صدق الوطنيين وحرقتهم على بلادهم ومصيرها، عاش عفيفا ومات، كذلك، رحمه لله وأحسن إليه.