فسحة رمضان على "أخبار اليوم".. العقلانية الإغريقية لم تكن شاملة لعجزها أمام الميتافيزيقا الإسلامية- الحلقة 23

22 مايو 2020 - 19:00

يعد ابن تيمية واحدا من الفقهاء والعلماء في تاريخ الإسلام الذين شغلوا مساحة واسعة من الجدل الديني والفكري والسياسي منذ قرون طويلة وإلى اليوم، سواء في العالم العربي والإسلامي أو في الثقافة الغربية، بل ربما كان الوحيد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس أكثر من غيره، وأثيرت حوله الانقسامات، بل صار في فترات معينة عنوانا لما ليس هو، وتهمة كافية توجه إلى كل من دافع عنه أو تحدث عنه بغير اللغة التي يراد أن يُخاض بها في فكره وحياته وشخصه. بعيدا عن القراءة الإيديولوجية التي وضعت ابن تيمية خلال العصر الحديث في هذا الصف أو الصف المقابل، وجعلته إما فقيه السلطة، وإما منظرا للعنف، يحاول الدكتور إدريس الكنبوري تقديم قراءة ثالثة تسعى إلى تخليصه من الصورة النمطية، من خلال إعادة دراسته في واقعه، ووضع فكره وإنتاجه الفقهي ضمن التراكم التاريخي للفكر العربي الإسلامي (تنويه من التحرير: نظرا إلى كثرة الإحالات والهوامش نعتذر إلى القراء عن عدم نشرها).

بيد أنه ينبغي ألا ننظر إلى المفهوم الإغريقي للعقل أو التعقيل باعتباره مرادفا لعمليات التفكر وممارسة النقد على ذاته والنظر إلى الأشياء بصفة محايدة، أي العقلانية كما نقول اليوم، فلم يكن ذلك العقل سوى ترجمان للعالم الميتافيزيقي الذي تملؤه الآلهة، أي عقلا خاضعا لقوانين صارمة موجودة سلفا، لا دخل للإنسان المفكر في تغييرها، ولا قدرة لديه على التحكم فيها. وبمعنى آخر، كان العقل الإغريقي مرادفا للحتمية الطبيعية أو الضرورة. ولعل هذا ما كان وراء نشأة المنطق الأرسطي عند الإغريق، ذلك أنه منطق مبني على قوانين محددة وصارمة تعطي النتائج نفسها كلما تكررت المقدمات نفسها.

فقد كان الإغريق يؤمنون بأن وراء الآلهة قوة غامضة، كانت أحيانا تعتبر هي والآلهة شيئا واحدا، وكان هومير صاحب الإلياذة يسميها أنانكي (Ananki)، أي الضرورة أو نظام الأشياء، بحيث لا تستطيع حتى الآلهة نفسها نقضه. نجد هذا في جميع الأساطير والملاحم اليونانية التي تشكل في العمق الأساس الذي نهضت عليه الفلسفة عند الإغريق، ففي مسرحية أوديب الملك الشهيرة لسوفوكل، على سبيل المثال، نجد أن الكهنة تنبؤوا حتى قبل ولادة أوديب بأنه سيقتل أباه ويتزوج أمه، وكان هو يعرف مصيره لكنه لم يكن قادرا على تجنبه.

ونلاحظ في هذه الأسطورة الشهيرة أن العقل الإغريقي، بالرغم مما أحيط به من هالة العقلانية، لم يكن سوى انعكاس لحتمية طبيعية مكتوبة سلفا لا دخل للإنسان فيها ولا قدرة له على إمكان تغييرها؛ إنه عقل منفعل لا عقل فاعل، عقل خاضع لقوة قاهرة تسمو عليه. وخلافا لكثير من المؤلفات التي زعمت تفوق العقل الإغريقي، فإن هذا العقل كان نتاجا للمناخ الديني الأسطوري في البيئة اليونانية لا نتاجا لاستقلالية في التفكير، وهذا ما جعلنا نؤكد الارتباط بين العقل والميتافيزيقا في الفلسفة الإغريقية. ويظهر عدم استقلالية هذا العقل في أنه ليس مجرد آلة للنظر في العالم وتفسيره، بل هو العالم ذاته، أي النظام الذي تسير عليه الأشياء والموجودات وفق ناموس محدد لا يحيد عنه.

هذه الحتمية في مفهوم العقل عند الإغريق، والنابعة من المناخ الأسطوري الوثني، أوقعتهم في تناقضات عدة، فتارة يعتبرون العقل والإله مفهومين مترادفين، وتارة أخرى يعتبرون أن العقل فوق الإله، وهذا يعني أن الإله جزء من العالم، وأنه هو نفسه خاضع لناموس العقل، طالما أن العقل فوق العالم أيضا، الأمر الذي يقودنا إلى النتيجة الطبيعية لمثل هذه المعادلة، وهو أن العقل قادر على تفسير الإله أيضا. فقد رأى الإغريق أن الكون «يمكن تفسيره بالعقل وحده، حتى الله نفسه مقيد بسلسلة من القوانين والأنظمة لا تدع له مجالا للتصرف بحرية واختيار، وما هذا النظام الشامل الذي تخضع له الأشياء والموجودات جميعا، وما القانون الذي يسير وفقا له، سوى العقل نفسه، فالعقل هو قانون الأشياء، كما أن الأشياء إنما تسير وفق قانون العقل، والله والعقل مترادفان، فالله إنما هو عقل خالص، والعقل الخالص إنما هو التعبير الفلسفي عن معنى الله».

إن هذا الفهم لطبيعة العقل في الفلسفة الإغريقية هو الذي أدى إلى تقديس العقل، ذلك التقديس الذي سترثه الفلسفة الأوروبية الغربية إبان عصر الأنوار بعد إعادة إحياء التراث اليوناني. يقول الدكتور مرحبا: «لقد ذهب اليونان في تقديس العقل إلى حد تكذيب ما لا يتفق معه ولو أيده الحس، فالمنطق أصدق من الواقع، والعقل أحق بالاتباع من الحس، شاهد الحس يخطئ وشاهد العقل معصوم عن الخطأ، فما يخالف العقل فهو غير موجود، وما يوافقه فهو وحده الموجود ولو لم يصل إليه الحس، ومن هنا تفرقتهم بين عالم الحقيقة والمثل وعالم الظن والوهم والخيال».

ولعلنا نخطئ أحيانا كثيرة في فهم هذا التوجه نحو تقديس العقل في الفلسفة الإغريقية، فنقع من حيث لا ندري في قصور الفهم، بسبب عدم وضع تلك الظاهرة الفلسفية الثقافية في سياقها الخاص بها، فكريا وتاريخيا. فالمجتمع الإغريقي كان مجتمعا وثنيا يعيش في ظل تعدد الآلهة ونوع من الأنسنة» لهذه الآلهة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، فلم يكن لهم كتاب شريعة يمكنهم الرجوع إليه أو مرجعية مشتركة مكتوبة تسمح لهم بالتحاكم إليها، وبالتالي، لا ينبغي للباحث أن يستغرب هذا التقديس للعقل لديهم، لأنه لم يكن متاحا لهم سوى ذلك، من أجل تنظيم حياتهم الاجتماعية والسياسية وفهم واقعهم؛ ولهذا، فإن تضخيم دور العقل عند الإغريق، مهما كان مبالغا فيه، قابل للتفهم في السياق التاريخي والثقافي الذي عاشوا فيه.

ولعلنا نخطئ أيضا عندما نعتبر أن هذه العقلانية الإغريقية كانت عقلانية شاملة، بمعنى أن العقل الإغريقي قدم إجابات كافية عن العالم المرئي والعالم غير المرئي، أو الميتافيزيقا. إن كل ما استطاع أن يقوم به في ما يتعلق بالبحث في ما وراء الطبيعة هو تقديم عدد من الافتراضات المتناقضة والملتبسة التي تختلف باختلاف الفلاسفة وتكوينهم الثقافي والنفسي، والبيئة الأسطورية الوثنية المحيطة بهم. وهذا ما يفسر لنا كيف أن المعرفة الأوروبية الحديثة، التي استفادت من معارف اليونان، استطاعت أن تحقق تراكما وتطويرا في ما يرتبط بالعلوم الثابتة أو التي لليقين فيها نسبة أكبر، كالطبيعيات والفيزياء والرياضيات، فيما لم تستطع تحقيق أي تراكم في ما يتعلق بالبحث في الميتافيزيقا، بل إننا نرى أن الأسئلة نفسها التي طرحها الفلاسفة الإغريق، حول الكون والإنسان والإله والفاعل الأول والعقل الأكبر، هي ذاتها التي تروج في الفلسفات الأوروبية الحديثة والمعاصرة، ولاتزال الإجابات التي قدمها أرسطو وأفلاطون، على سبيل المثال، هي الإجابات التي يعاد تأويلها وبحثها.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

عثمان منذ 3 سنوات

مقال جيد ولكن عنوانه غير موفق بل ويضمر مغالطة كبرى، اولا لم تتناول الميتافزيقا الاسلامية وادرجتها ضمن العنوان وهذا قصور في المقاربة، ثانيا حمكت ان الميتافزيقا او اللاهوت الاسلامي اشمل من الفكر الاغريقي ولم تظهر كيف ذلك وبالتالي فهذا ربط عبثي، ثالثا الفلسفة اليونانية جاءت كتجاوز كلي للميثولوجيا اليونانية، رابعا كناك الكثير من الاحكام المسبقة حول العقل اليوناني وغير المسنودة بمصادر او مراجع....

التالي