يونس مسكين يكتب: "الزنزانة رقم 9"

02 ديسمبر 2019 - 18:00

أصعب ما يمكن أن تواجهه مؤسسات وسمعة ومصداقية دولة هو الإشارات المتناقضة، فحتى التراجعات قد تكون خيارات مرحلية قابلة للتبرير والتفسير بوجود إكراهات، وقد تترك باب الأمل مفتوحا في استئناف مسار التطور بزوال تلك العراقيل. أما أن يصدر عن الدولة نفسها ما يوحي بالرغبة في وقف النزيف واستئناف السير نحو الإصلاحات، وتمعن، في الوقت نفسه، في ضرب ما تبقى من رصيد مصداقيتها وثقة المواطنين فيها، فذلك هو الخلط الذي يقتل الأمل ويضعف الانخراط ويزرع الشك في المستقبل.

لننظر إلى المشهد الذي عشناه قبل يومين فقط، أي أول أمس السبت. في إحدى القاعات العمومية بمدينة سلا، كان زعماء وقياديون ينتمون إلى طيف واسع من الأحزاب السياسية، بمن فيهم رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، وحليفه السابق، المعارض الحالي نبيل بنعبد لله، يناقشون موضوع الحريات العامة في ضيافة حزب الحركة الشعبية، الذي حرص زعيمه، امحند العنصر، على إظهار «شجاعته» حين قال في بداية اللقاء إن هناك من نصحه بعدم فتح هذا النقاش لكنه «رفض».

في تلك اللحظات التي كان السياسيون يعتلون فيها منصة الخطابة، في محاولة لإعطاء انطباع باستمرار النبض في عروق الهيئات السياسية، واحتفاظها بالقدرة على الخوض في النقاشات الحساسة، كانت الروائح التي تنبعث من داخل المؤسسة التشريعية تغطي على ما أمكن لندوة الحركة الشعبية أن تحققه من استرجاع للثقة الشعبية.

سوف لن ندعي أن كل ما قيل في اليومين الماضيين صحيح، لكن المثل يقول «لا دخان دون نار»، وإن لم تكن الروايات المخيفة التي تناقلتها الألسن والهواتف والرسائل في اليومين الماضيين، حول كيفية نزول التعليمات والضغوط، من قادة الأحزاب وأشخاص نافذين، لحمل الفرق البرلمانية في مجلس المستشارين على سحب تعديلاتها الخاصة بالمادة 9 المثيرة للجدل؛ فإن تراجع جلّ الأحزاب والفرق والبرلمانيين عن تفعيل انتقاداتهم وصراخهم السابق المحذر من مخاطر هذه المادة، وصمتهم عليها، لا يحمل على الاطمئنان، لكي لا نقول يبعث على الخوف.

لسنا هنا بصدد الوقوف عند تفاصيل ثانوية أو تأويلات متعسفة أو قراءات من خارج دائرة الوقائع والمعطيات. بل إن أحزابا في المعارضة عبّر زعماؤها في بداية النقاش حول هذه المادة، التي تمنح أموال وممتلكات الدولة حصانة ضد الحجز لتنفيذ أحكام القضاء، عن رفضهم المطلق، واعتبروا في أحاديث خاصة أن هذه المادة تهدد الحركة الاقتصادية والاستثمار بنوعيه الداخلي والخارجي، ثم انقلبوا على أنفسهم وفرضوا على برلمانييهم التراجع عن موقف المعارضة. والمصيبة الأعظم أن مسؤولين عن فرق برلمانية برروا صراحة تراجعهم عن اتفاق جرى بين الفرق البرلمانية بمجلس المستشارين الأسبوع الماضي، بتلقيهم ضغوطا واتصالات من هذا المسؤول أو ذاك.

بما أننا مازلنا في لحظة يسمح معها الوضع بإنقاذ ماء الوجه، والحؤول دون سقوطنا في فخ الشعور الجماعي بأننا بصدد سياسة الإذعان حتى ونحن نناقش مشروع قانون المالية الذي يعتبر سبب نزول المؤسسة البرلمانية في الديمقراطيات الحديثة، تعالوا نحاول الإمساك بـ«رأس الخيط» وجوهر الإشكال المرتبط بالمادة 9 من مشروع القانون المالي:

مهما كان اختلافنا مع مضمون هذه المادة ورفضنا إياها أو تشكيكنا في قانونيتها ودستوريتها، فإنه من غير الممكن افتراض خلوّ نية الواقفين وراءها من مبرر مشروع ومصلحة فعلية ستحققها «الدولة» من وراء تمريرها. والحقيقة أن أحدا لا يمكنه أن يدافع عن استمرار الوضع الحالي المرتبط بالحجز على ممتلكات الدولة لسببين اثنين.

السبب الأول هو أن المسألة باتت تمثل ضغطا كبيرا على المالية العامة، حيث يجري الحديث عن قرابة 35 مليار درهم حُكم على الدولة بدفعها لخصوم لجؤوا إلى القضاء في مواجهتها. أما الثاني، وهو الأخطر، فيتمثل في وجود تلاعبات في ملفات ومساطر مقاضاة الدولة وحملها على تعويض المتضررين. أبسط هذه التلاعبات يقع عبر تواطؤات بين مسؤولين وبين أشخاص يتحولون إلى متضررين من استيلاء الدولة على ممتلكاتهم، ما يسمح لهم بمقاضاتها والحصول على تعويضات مالية يستخلصونها بطرق من بينها الحجز على ممتلكات الدولة.

المشكلة، إذن، ليست في مشروعية الخطوة التي تجسدها المادة 9 من مشروع القانون المالي، بل إن العطب يكمن في مستويين آخرين؛ أولهما أن حلّ مشاكل الدولة وتحقيق المصلحة العامة لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن يمرّا فوق «ظهر» القانون والدستور والمؤسسات. ولا يمكن أن يكون كلّ هؤلاء الأكاديميين والخبراء والسياسيين الذين صرحوا بمخالفة هذه المادة لنص وروح الدستور، متواطئين مع ذوي المصلحة في الحجز على ممتلكات الدولة. كما أن اللجوء إلى منع الحجز يعني أننا يمكن أن نوقف حرب الطرق، مثلا، التي تقتل سنويا أكثر من 4 آلاف مغربي، بمنع السياقة وحظر استخدام العربات ذات المحرّك.

إذا كان هناك من بين موظفي الدولة والمنتخبين من يتواطأ مع سماسرة التعويضات على حساب المصلحة العامة، فينبغي أن تفعل الدولة قوانينها ومؤسساتها لضبطهم ومعاقبتهم، لا تحطيم البيت فوق رؤوس الجميع.

أما المستوى الثاني للعطب، فهو سياسي خالص، ويكاد يكون جوهر المأزق الذي نعيشه اليوم؛ إن المادة 9، مع ما تنطوي عليه من خلفيات مشروعة ومخاوف حقيقية على توازن المالية العامة واستمرار المرافق والمؤسسات، لم تجد من يحملها ويترافع عنها ويتفاوض من أجل تحقيق الغاية منها بوسائل السياسة ودون خرق القانون وإضعاف المؤسسات.

دعونا نسجّل، أولا، أن الأمر لا يعني بالضرورة أي تشكيك في وطنية أو كفاءة وزراء أمثال محمد بنشعبون أو عبد الوافي الفتيت، لكن فاقد الشيء لا يعطيه، والوزير الذي يأتيك من دواليب الإدارة أو المقاولة لن يجد ما يدافع به عن مشاريعه وقراراته غير منطق التعليمات، وهنا تضيع الكثير من الإصلاحات التي تفشل فقط لأنها لا تجد من يؤسسها قانونيا ويسندها سياسيا.

لنتصوّر للحظة أننا وقعنا فجأة في حاجة إلى تمرير إصلاح، من قبيل حذف دعم المقاصة الذي وجد بالأمس «ظهر» عبد الإله بنكيران لكي يحمله ويدافع عنه ويتحمّل هو وحزبه ضريبته مجنبا الدولة تبعاته، هل سنمرّره بالتعليمات والضغوط؟ هل سنحمل المجتمع على الإذعان ونرغمه على ابتلاع دواء مرّ لم نقنعه كفاية بحتميته؟ هل ستكون استقالة أو إعفاء وزير تقنوقراطي كافية لنزع فتيل غضب نشعر به جميعا ينمو من حولنا؟ هل يستحق الأمر فعلا ترك فسحة قانون مالي بكامله ودخول «الزنزانة رقم 9».

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي