إسماعيل حمودي: سياسة تدبير البرد

29 نوفمبر 2019 - 18:00

تكشف سياسة تدبير البرد، التي تنخرط فيها حكومة سعد الدين العثماني، هذه الأيام، عمق التحول في علاقة دولتنا بمجتمعها. منذ أحداث أنفكو سنة 2007، حيث مات 27 طفلا نتيجة البرد القارس، انخرطت الدولة، تدريجيا، وبشكل أكثر شمولية بعد ثورات 2011، في التعاطي بشكل جدي مع انتظارات المواطنين في الجبال والمناطق النائية في العالم القروي، ولا أدل على ذلك البرامج والإجراءات المتخذة إلى حد الآن، ومنها «برنامج تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية» 2017-2023، الذي تشرف على إنجازه وزارة الداخلية.

لم يكن تدبير البرد ضمن الأجندة الرسمية قبل ذلك الحدث المؤلم، لكن منذ زيارة الملك محمد السادس لأنفكو في ماي 2008، دخل البرد ضمن أجندة الدولة، وهكذا يمكننا، منذ ذلك الحين، رصد العديد من المبادرات والإجراءات والحملات التي انخرطت فيها العديد من المؤسسات، مثل مؤسسة محمد الخامس للتضامن، الجيش الملكي، الوقاية المدنية، وزارة الداخلية، وزارة التنمية الاجتماعية، وزارة النقل… الخ، والتي أطلقت برامج وإجراءات، وحتى حملات، للتخفيف من معاناة «منزوعي السلاح» في الجبال والهضاب الصعبة، أمام مختلف المخاطر الطبيعية التي تواجههم.

يمكننا التذكير هنا بالمستشفيات العسكرية الميدانية التي أطلقها الجيش الملكي منذ سنة 2008، وأقامها، على مدى السنوات الماضية، في مناطق جبلية صعبة في أقاليم خنيفرة وميدلت وتاونات وتنغير وتازة، حيث تستمر طيلة فترة فصل الشتاء، كما يمكن التذكير بحملة العناية بالمسنين التي أطلقتها الوزيرة السابقة بسيمة الحقاوي في أكتوبر 2013، والتي تميزت، في بدايتها، بإشراك المحسنين والمجتمع المدني والإعلام، ويمكن أن نذكر، أيضا، بمبادرة «المستشفيات المتنقلة» التي أطلقها وزير الصحة السابق، لحسن الوردي، في أكتوبر 2012، وتميزت باستخدام طائرات «هليكوبتر» مجهزة طبيا، لأول مرة، في إسعاف المرضى في المناطق النائية، قبل أن تطلق الوزارة نفسها قبل سنتين برنامج «رعاية» المستمر حتى اليوم.

من خلال تلك الإجراءات وغيرها، سواء خلال الولاية الحكومية السابقة أو الحالية، يبدو أن هناك حضورا متزايدا للدولة الاجتماعية، من خلال الاستجابة للانتظارات والمطالب الاجتماعية الصاعدة من الأسفل، لكن يمكننا أن نسجل ملاحظتين في هذا السياق؛ الملاحظة الأولى، أن حضور الدولة الاجتماعية يبدو ضعيفا في بعض المجالات، مثل الضريبة التي تفرضها الدولة، إلى حد الآن، بطريقة شبه عمياء، أو في مجال المقاصة التي جرت مراجعتها، لكن على حساب فئات الطبقة الوسطى. تتمثل الملاحظة الثانية في بروز مجالات اجتماعية جديدة استقطبت الاهتمام الحكومي نحو التركيز عليها بشكل أكبر من ذي قبل، تحت شعار: «تقليص الفوارق»، وخصصت لها مخططات وبرامج مختلفة (التغطية الصحية، التعليم، دعم الفئات الهشة كالأرامل والمطلقات… المبادرة الوطنية للتنمية البشرية…).

لكن المشكل الأكبر الذي يواجه كل البرامج الحكومية هو قدرتها على تغيير واقع الناس في الحقيقة وليس على الورق، خصوصا تأهيل المواطنين للخروج من دائرة الفقر والتهميش، دون السقوط فيه مجددا. ففي دراسة للاقتصادي عبد الخالق التهامي، أنجزها رفقة باحثين آخرين، حول أثر برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في واقع 1400 أسرة فقيرة في 120 جماعة قروية، اتضح أن أوضاع أولئك الفقراء كانت تتحسن نحو الأفضل حين يستفيدون من برامج المبادرة، ثم سرعان ما تتدهور حالتهم الاقتصادية والاجتماعية، بشكل أسوأ، مباشرة بعد توقف البرنامج المخصص لهم.

ويمكن أن نضيف حجة أخرى إلى هذه المفارقة، فحواها أنه رغم تعدد برامج الحكومة، التي تكلف الدولة ملايير الدراهم، فإنها لا تستطيع تغيير واقع الناس المعيشي والاجتماعي، وأقصد بالضبط المفارقة بين التحسن المستمر في المؤشرات الاقتصادية والمالية للدولة، مقابل الضعف غير المفهوم في المؤشرات الاجتماعية، وهي المفارقة التي تسجلها باستمرار، ولسنوات متتالية، تقارير مؤسسات دولية ذات مصداقية.

ما المطلوب؟ تعول الحكومة على السجل الاجتماعي الموحد الذي أصدرت بشأنه قانونا، ومن المرتقب أن تنطلق في تنفيذه السنة المقبلة بشكل تدريجي، لكن، لا يبدو أن المشكل يكمن في ترقيم الفقراء، لضبط السياسات الموجهة إليهم. إن الإشكال أكبر من «برمجة» تقنوقراطية. وعليه، يُفترض أن يكون النقاش العمومي حول النموذج التنموي الجديد فرصة لإثارة السؤال الإشكالي حول الكيفية التي تحضر بها الدولة في المجال الاجتماعي. وفي تقديري، نحتاج إلى سياسة شاملة ونسقية وبعيدة المدى وفق مقاربة ترتكز على الأمن الإنساني، تلك المقاربة التي تجعل الإنسان/الفرد في قلب السياسات والمخططات والبرامج، وليس أي شيء آخر.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي