منير أبو المعالي يكتب: لسنا بهائم

21 نوفمبر 2019 - 18:00

يصبح اليسار شعبويا عندما يتحول كل شيء يتحرك إلى عدو بالنسبة إليه. «الإستبلشمنت» يجب أن تكون هدفا مركزيا، والنخب عموما ينبغي أن تتعرض للاستعداء بشكل منهجي. تبقى للشعب كلمته؛ بأي شكل؟ ليست هناك فكرة. 

نبيلة منيب يمكنها أن تقول أي شيء في أي مكان لكي تظهر أن «للشعب حقا» في كل شيء. ونائبها في البرلمان، عمر بلافريج، بمقدوره أن يجعل من المفاجأة السياسية نهجا استراتيجيا. وفي الواقع، تتشكل صورة شعبوية بشكل سريع لحزب كان مسؤولوه يحاولون بثبات جعله كيانا نخبويا للتخطيط الديمقراطي.

تربح الشعبوية، مع ذلك، مساحات جديدة، في اليسار كما في اليمين، وفي الغالب تكون مردوديتها لليسار أقل، فهو حديث العهد بعملية التجريب القاسية، على ما يبدو، لهذه الوصفة غير الخاضعة لأي تأطير مؤسسي. 

تحصي منيب أنفاسها وهي تتحدث عن كل شيء، باستثناء ما هو اشتراكي -والمناقشات حول الاندماج بين مكونات فدرالية اليسار الديمقراطي، مثلا، مازالت بطيئة لأن المرجعيات باتت موضع شك- وهي لديها قناعة كما يظهر بأن اليسار يمكنه أن ينجح إذا قوّى ترتيباته المرتجلة بالمتناقضات. 

يمكن أن تتحدث منيب، على سبيل المثال، عن التعليم مثل معلم متقاعد يحتج على الطريق، كما بمستطاعها أن ترمي فكرة حول الصحة هي بالضبط ما يطرحه أي شخص يشكو سوء معاملة على باب مشفى. كما بمقدورها، باختصار، أن تلقي بحل مشكلة مثل الاعتقال السياسي هو نفسه ما يطالب به المعتقل ذاته. وهي، في كل هذه المرات، تستخدم منطق التحليل نفسه، والمصطلحات نفسها، وبشكل أكثر دقة: المظهر المتعصب نفسه. 

تقدم منيب حلولا بسيطة من الناحية النظرية، وهي تفترض أن اجتثاثا مفاجئا للإستبلشمنت سينهي المشاكل كلها. وحينما يصبح كل شيء يدور من حولك فاسدا، فإنك، دون شك، ستصاب بالدوخة إن حاولت فعل شيء وحدك. هذه حقيقة لا ترغب منيب في سماعها.

ليست هناك فكرة عن الطريقة التي بمقدور كيان مثل الحزب الاشتراكي الموحد أن يفعلها، لكن قادته يبدون متحمسين للشروع في حصد النتائج قريبا. ولأنهم يستلهمون الكثير من الصور التعبيرية من «بوديموس»، جارنا الشمالي، فإنهم متيقنون من ربح هذه الجولة من المعركة.

يمكن أن تنقلك الشعبوية من مقعدين اثنين إلى عشرين، لكنها لا تضمن لك استراتيجية سياسية فعالة، لاسيما إذا كنت تتصرف وكأنك تنظر إلى باقي الأطراف باعتبارهم موضوعات ينبغي أن تخضع للإكراه.

بلافريج نائب يعمل بالحكمة نفسها داخل البرلمان، وحتى الآن ليست هناك أي عوائد عملية. لا القوانين التي عارضها سقطت، ولا المواد التي قضى ليالي في مهاجمتها عُدلت. حجمه التقني لا يسمح له بذلك على كل حال، لكنه يبدو مستعدا لكسب ما يفقده من زخم في المكان المناسب؛ الجلسات العمومية وهي تُبث على التلفزيون الوطني. 

يرغب بلافريج في إظهار صلابة سياسية نادرة في البرلمان، وهو في طريقه إلى ذلك، ينحو إلى جعل نفسه مركزا حيويا لأي عملية تغيير مطلوبة. لكن، وكما أنه ليس أبله، فإن الآخرين أيضا منتبهون إلى مواقعهم، وبعض الاستعراضات الشعبوية يمكنها أن توقظ ما لم يكن في الحسبان.

الشعبوية ليست مرضا سياسيا، لكنها تكتيك مرتجل. وبقدر ما تبقي الأمل في الإصلاح مفتوحا في المستقبل، فإن ترتيباتها العشوائية قد تضر أكثر بالمواطنين، إن لم تفسر مضامينها بشكل واع وحذر. وبمقدوري أن أفهم أن الشعبوية فن، لكن من الصعب تمييز ما إن كان مثل هذا الفن قادرا على تهذيب الذوق العام للناس، أو أنه، عكس ذلك، من شأنه أن يكون أداة لتخريب العقول. 

غير أن الشعبوية تنتصر عندما تصبح ترياقا للداء المتغلغل في التدبير العمومي، أي عدم الكفاءة. الحسن عبيابة، على سبيل المثال، يُقوي الاقتناع بأن الأشخاص غير المناسبين يملكون الفرصة ذاتها بالتساوي مع الأشخاص المناسبين لشغل منصب عمومي.

وعندما تتراكم الأخطاء في زمن قياسي، تصبح مصدرا للإحراج، ولا ينبغي، بأي شكل من الأشكال، تصنيفها وكأنها أغلاط شخص يحاول أن يتعلم المشي. في الإشكالات المتعلقة بعبيابة، لا ينكشف لنا فقط شخص مسؤول دون دراية، وإنما تتفسح الألوان التي قُيض لـ«حكومة الكفاءات» أن تظهر بها. 

إذا كان لديك مسؤول لا يستطيع أن يتلو اسما صحيحا من ورقة وضعت بعناية أمامه، وبأحرف بارزة، فإنك في مواجهة مشكلة منذرة بالسوء. هذه ليست دعوة إلى لجمه، لكن سيكون من الأفضل ألا يفوض إليه مستقبلا أن يلقي خطابا باسم البلد. وإذا كان رئيس دولة أخرى في المكان، فإن عدم التفويض إليه يُقيد بظروف التشديد.

يحاول عبيابة أن يكون شخصا كاريزميا لكن تنقصه، بشكل فادح، الملكة الضرورية لتحقيق ذلك. يحاول أن يكون ودودا، وصارما في الوقت نفسه، وأن يبدو مثل رجل دولة، لكنه يتصرف مثل مسؤول في حزب الاتحاد الدستوري. من المؤكد أن الرجل ليس لديه كُتيب إرشادات، ودون شك، لا يحيط به الأشخاص الملائمون. في أول تجربة له، وجد نفسه تحت عبء ثلاث وزارات. 

وبسبب تفاهة التقطيع الحكومي، كما صممه المتفاوضون، صار عبيابة يُسأل في ندوة ما بعد المجلس الحكومي عن تدبيره وزارته أكثر من أي شيء آخر. سلفه، مصطفى الخلفي، كان شخصا باردا، لا يحمل أي حياة على وجهه، يملأ فراغات التحفظ بمزيد من التحفظ. بشكل مختلف عنه تماما، يحاول عبيابة أن يبدو حيويا، غير عابئ بالرسميات. يمكنك أن تطرح عليه سؤالا، ويجيبك عما لم تطرحه. فعل ذلك مرارا في ندواته الأسبوعية، كما في البرلمان.

هناك أشخاص مضحكون في هذه الحكومة، لكنهم متخفون بارعون. يميل عبيابة إلى الانكشاف، ويظهر بذلك ضعفه. مشكلة عبيابة لا تعنيه هو فحسب، بل هي أيضا مشكلة من صمموا هذه الهندسة، حيث يصبح بشري واحد «سوبر وزير». 

إذا كانت مشكلة عبيابة هي لسانه، فيمكن قطعه بإعادة تصميم مناصب هذه الحكومة. لكن ذلك لن يكون حلا لمعضلة سياسية في هذه البلاد؛ ليس لدينا مقياس لعدم الكفاءة غير المفاجأة المكلفة. حينها، نكتفي بالحملقة مثل بهيمة.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي