يونس مسكين يكتب.. هواء مغاربي جديد

21 أكتوبر 2019 - 18:01

هناك روح إيجابية جديدة تعبر الجسم المغاربي حاليا، وتحيي أملا ولد قبل أكثر من نصف قرن، ووأدته حسابات الأنظمة السياسية والقوى الدولية والإقليمية. رئتا الاتحاد المغاربي، إن جاز لنا إطلاق هذا الوصف على المغرب والجزائر، تتنفسان منذ شهور طويلة هواء مختلفا. لا ندري بعد مصدر هذا الهواء، ولا من وجّه تياره نحو الرئتين ودعاهما إلى استنشاقه بعمق وهدوء، لكن المؤكد، من المعطيات المعلنة والمتسربة، أن هناك ولادة عسيرة وبطيئة لوضع جديد، لا يمكن الجزم بسهولة بملامحه، لكنه مختلف حتما عما عاشته شعوب المنطقة منذ استقلالها حتى الآن.

تحلّ بنا قريبا الذكرى السنوية الأولى لخطاب ملكي استثنائي بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء، التي تحل في 6 نونبر من كل سنة. فقبل عام من الآن تقريبا، قال ملك المغرب، في خطاب رسمي، إنه يقترح على الجارة الجزائر إحداث آلية سياسية مشتركة للحوار والتشاور، والاتفاق على تحديد مستوى التمثيلية بها، وشكلها وطبيعتها. وأضاف الملك أن المغرب منفتح على الاقتراحات والمبادرات التي قد تتقدم بها الجزائر، بهدف تجاوز حالة الجمود التي تعرفها العلاقات بين البلدين الجارين الشقيقين.

الملك العلوي، كما يحلو لبعض الجزائريين مناداته، اقترح انكباب هذه الآلية الثنائية على دراسة جميع القضايا المطروحة، «بكل صراحة وموضوعية، وصدق وحسن نية، وبأجندة مفتوحة، ودون شروط أو استثناءات». والذي يعرف طبيعة النظام السياسي المغربي، ويفهم أسلوب اشتغال المؤسسة الملكية، يدرك، دون أن يكون مواليا ولا معارضا بالضرورة، أن الأمر لا يمكن أن يكون عبثا في مثل هذه الحالات، خاصة أن اليد الملكية الممدودة كانت تحمل شتلة شجرة تنمية مشتركة يمكن البلدين أن يزرعاها، من خلال «استثمار الفرص والإمكانات التنموية التي تزخر بها المنطقة المغاربية»، مع تجديد الالتزام المغربي بالعمل، «يدا في يد، مع إخواننا في الجزائر، في إطار الاحترام الكامل لمؤسساتها الوطنية».

ماذا حصل منذ صدور هذا النداء؟ يجزم بعض المتشائمين والمتسرّعين بأن شيئا لم يحصل، وأن الجزائر تجاهلت اليد المغربية الممدودة. وهذا غير صحيح. فالذي يملك حدّا أدنى من الاطلاع على طبيعة النظام الجزائري، يدرك أيضا أنه نظام مختلف، ولا يمكن أن نتوقّع محاكاته أسلوب النظام السياسي المغربي، لأنه لا يملك استقراره ولا وضوح مراكز قواه ولا مركزية قراره.

بعد ذلك النداء الملكي، التقى المغرب والجزائر مرتين، وجلسا إلى طاولة مستديرة، ليس لتبادل «اللغا»، بل لمناقشة موضوع الصحراء. لقد نجح الرئيس الألماني السابق، هورست كوهلر، ومعه الأمم المتحدة وما لا نعلم كل تفاصيله من معطيات دولية، في جمع البلدين حول طاولة مستديرة لم يكتب لها أن تنعقد مجددا بعد استقالة كوهلر شهر ماي الماضي.

وبعد الخطاب الملكي الأخير بمناسبة المسيرة الخضراء، شهدت الجزائر انطلاق الحراك الشعبي المستمر منذ قرابة عشرة أشهر. ولا يمكن المتتبّع أن يغفل السلوك المغربي تجاه هذا الحراك، والمتّسم بالنأي بالنفس، وتجنّب أي تلميح يفيد بالرغبة في التدخل، أو استثمار الحراك الشعبي للإطاحة بنظام سياسي يعرف الجميع أنه معاد للمملكة.

شخصيا، لم أقتنع بالمبررات الشخصية التي ساقها البعض لتبرير البيان الأخير الذي أصدرته وزارة الخارجية ضد الرئيس الطارئ للباطرونا، صلاح الدين مزوار. صحيح أن لغة وأسلوب البيان اتّسما ببعض الرعونة تجاه شخص يرأس منظمة مهنية يفترض أنها مستقلة، لكن الشاهد عندنا هو أن الرباط ظلّت حريصة على تجنّب صدور أية إشارة قد تفسد شيئا ما يجري طبخه على «أقل من مهله».

في هذا السياق، ينبغي أن نقرأ التصريحات القوية التي أدلى بها أخيرا سياسي جزائري لا ينطق عن عبث، حين خرج الرئيس السابق للبرلمان الجزائري، عمار سعداني، ليقول إن الصحراء، في حقيقة الأمر، مغربية خالصة، وإن الدعم الجزائري للبوليساريو بات مكلّفا للاقتصاد والتنمية الجزائريين، وإن على البلدين الجارين فتح حدودهما البرية وإنهاء صراعهما الطويل. تصريحات علنية قوية تصادف «تسريبات» أخرى تقول بعزم الجزائر على الإقدام، خلال الشهور المقبلة، على فتح تدريجي لحدودها مع المغرب، أي تحرير حركة الأشخاص في مرحلة أولى، قبل إطلاق الحركة التجارية البرية…

التقيت أخيرا دبلوماسيا غربيا له اطلاع جيّد على كواليس السياسة الدولية والإقليمية في المغرب العربي. وكان مما قاله، أن ترتيبات كبيرة تجري لتغيير الوضع في المنطقة المغاربية، بما يفيد، حسب هذا الدبلوماسي، إيجاد وصفة أمريكية لإنهاء نزاع الصحراء، بالنظر إلى أن كلفته الجيوسياسية باتت كبيرة. سألت هذا الدبلوماسي عن مدى استعداد النظام الجزائري للإسهام، أو، على الأقل، تسهيل خطوة كهذه لا أتصوّر وقوعها، من موقعي بصفتي مغربيا، إلا بإقرار السيادة المغربية الكاملة على الصحراء؟

جواب الدبلوماسي الغربي، الذي يملك من المعطيات ما يسمح له بالحديث الواثق، ولي بأخذ حديثه على محمل الجد، مفاده أن النظام الجزائري أبدى في الفترة الأخيرة تحولا مهما بشأن قضية الصحراء. كيف؟ سألت بكثير من الترقب. «لقد باتت هذه القضية تمثل عبئا ثقيلا، سواء اقتصاديا أو جيوسياسيا، بما يمنع الجزائر من مسايرة التحولات الدولية المتسارعة، وبالتالي، هناك رغبة حقيقية في إيجاد حلّ لهذا النزاع»، يقول المتحدث نفسه.

أذكر أن محدثي أبدى الكثير من التوجّس تجاه هذه الترتيبات الجارية، بحكم أنه ينطلق من مصالح الدولة التي ينحدر منها، لكن ما ظل عالقا بذهني، بعد حديثي المطول معه، من منظور مصالحنا الوطنية المغربية، هو أن الرجل تساءل بجدية: «هل النظام السياسي المغربي قادر على القيام بالخطوات المناسبة في الوقت المناسب؟ لأن الظروف التي تكون مناسبة في وقت معين قد لا تكون كذلك بعد حين».

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي