في السماء

27 أغسطس 2019 - 21:00

هناك أشخاص بمجرد ما يأخذون مكانهم في الطائرة ينزل عليهم الخشوع، ويشرعون في ترديد الشهادتين و»إنا أعطيناك الكوثر»، ونظيراتها من السور القصار التي يحفظون. يغمضون أعينهم ويُسبِّحون بحمد من رفع السماء بلا عمد، ويتعهدون بالإقلاع عن جميع المعاصي، لو عادوا إلى الأرض سالمين. المشكلة أنه بمجرد ما تحط الطائرة ويسمعون صوتا نسائيا يردد: «سيداتي وسادتي لقد حطت بِنَا الطائرة بحمد الله في المطار الفلاني»… يختفي الخشوع ويشرعون في التسابق على سحب الأمتعة، والتدافع من أجل الخروج قبل الآخرين، ويعودون إلى هواية «جمع الذنوب»، التي اقسموا أن يقلعوا عنها عندما كانوا معلقين بين السماء والأرض!

كثيرون يرعبهم السفر جوا. أنا واحد منهم. كلما صعدت الطائرة أحس بمغص في البطن. الهلع يزداد عندما تشرع المضيفة في تلاوة تعليمات السلامة. الفظيع في الأمر أنها تتحدث عن الكوارث المحتملة بعفوية رهيبة، تلميحا لا تصريحا. تضع على وجهها «قناع الأوكسجين» الذي يجب على الركاب استعماله بالطريقة ذاتها «إذا دعت الضرورة»… «عند الطوارئ تسقط تلقائيا أحزمة السلامة وتضيء ممرات الخروج»… «الخروجْ إلى أين»؟… إذا «سقط القناع تلقائيا» أو اضطررت إلى «وضع الحزام»… معناه أنك ستغرق في البحر، سيأكلك السمك. يستحسن أن تغمض عينيك وتقرأ القرآن!

لكن تبقى أكثر الأسفار إثارة للذعر، بالنسبة إلى من يعانون «فوبيا التحليق»، هي الرحلات الداخلية التي تؤمنها طائرات صغيرة تحلق على علو منخفض، ولا تكف عن التململ بعنف، كأنها حافلة معلقة في الهواء، وعليك أن تمسك بأي شيء كي لا تصاب بالدوخة، في انتظار النزول. هذه الطائرات التي تتأخر دائما عن موعد الانطلاق، دون أن ترى شركة الخطوط الملكية المغربية أي داع لإعلان ذلك أو تبريره للركاب، الذين لا يختلف حالهم عن أي مسافرين في محطة للكيران.

الواقع أن الطائرة كانت تخيف عددا أكبر من المسافرين، عندما لم يكن هيكلها وحده ما يحلق في السماء، بل أسعارها أيضا. قبل أن تحتدم المنافسة بين شركات الطيران وتتكسر الأثمان وتنتشر الرحلات منخفضة التكلفة، كانت الطائرة اسما على مسمى، أسعارها تصيب فعلا بـ»الطيارة». وقتها، كان معظم المهاجرين والطلاب في أوروبا يعودون إلى البلاد بالسيارة أو الحافلة. ولعل من سوء حظ الطلاب المغاربة اليوم، أنهم لم يجربوا تلك الرحلات «التاريخية» على متن حافلات طريفة مع ركاب أطرف يسمون «الزماكرية». ينطلق «الكار» من أحد «الكاراجات» في أنيير أو جونفيليي في اتجاه وجدة أو الناظور عبر إسبانيا. عادة ما يلتقي الركاب باكرا في «الكاراج» ويكدسون حقائبهم في الحافلة، قبل أن يركبوا وفي أيديهم أكياس معبأة بالأكل، لتنطلق رحلة تستغرق ثلاثة أيام. كأنك في معتقل متحرك. تقطع فرنسا وإسبانيا مع استراحات متفرقة. كي لا تموت من التعب والملل والقرف، تجرب أن تملأ الساعات بالقراءة والموسيقى والنوم والأكل والثرثرة مع الجار… ومع ذلك لا تصل. عندما تفقد الرجاء تماما، تبدو لك «الجزيرة الخضراء» أو «طريفة»، وتعرف أن الأسوأ صار وراءك، قبل أن تركب الباخرة في اتجاه طنجة أو سبتة وسط زحامات لا تنتهي…

بخلاف الحافلة، الطائرة اختراع مخيف رغم أنها تختصر المسافات. البعض يردد أنها أكثر وسائل النقل أمانا في العالم، لكن «الأمان» شيء، و»الطمأنينة» شيء آخر. تجلس في مقعد وتشاهد نفسك وأنت ترتفع أميالا محترمة في السماء، على امتداد كيلومترات طويلة. السيارة والقطار و»الكار» والحمار وبقية الدواب الحية والحديدية، أكثر طمأنينة لأنها ملتصقة بالأرض، أما الطائرة فتصعد إلى أعلى، هناك حيث توجد «الجنة» و»جهنم»، وحيث سنذهب جميعا بلا رجوع، والخوف كل الخوف أن تقلع بِنَا الطائرة يوما ونواصل الصعود إلى السماء، بلا توقف، ودون ترتيب مسبق.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي