في مخاوف الدولة

23 أغسطس 2019 - 18:39

لست أدري لماذا شعرت بغير قليل من القلق وأنا أتابع خطاب ثورة الملك والشعب، وأقرأ بين سطوره ومفرداته المستقبل الذي سيؤول إليه المغرب.

نعم، لغة الخطاب كانت كاشفة وواضحة وصريحة، وتُشعر بأن المغرب يعيش تحديات جمة لا سبيل للخروج منها إلا بجهد كبير، وعمل شاق ممتد في الزمن.

لأول مرة تضيق الخيارات، ويتم وصف النموذج التنموي الذي تتطلع إليه الدولة بـ»الموضوع المصيري»، بل يتحدث الملك بكل صراحة عن «بلوغ المغرب لمرحلة لا تقبل الخطأ أو التردد»، وعن “وجوب” الوصول إلى حل للمشاكل التي تعيق التنمية، ولأول مرة أيضا، تضع الدولة مخاوفها الثلاثة فوق الطاولة: الهشاشة في العالم القروي، وأيضا في ضواحي المدن، وانهيار الطبقة الوسطى داخل المدن. فهي تعي، بعمق وبنظر استشرافي، أن استمرار معادلة «عدم وصول ثمار النمو للجميع، واحتكار فئة قليلة للثروة»، يعمق الفوارق الاجتماعية والمجالية، ويوسع خارطة المناطق المقصية والمهمشة، ويدفع بالطبقة الوسطى لمزيد من التهاوي، بما يهدد الاستقرار، لاسيما إن تعقدت الشروط الاقتصادية، وسارت التحولات الدولية والإقليمية في الاتجاه المعاكس لرهانات المغرب الاقتصادية والاستراتيجية.

لن نضع السؤال مرة أخرى على  ضمانات الرهان على نموذج تنموي في تحقيق كل هذه الأهداف، فقد سبقت هذا النموذج خيارات استراتيجية كبرى للدولة كان لها بدون شك أثرها، لكنها لم تحل مشكلة الفوارق الاجتماعية والمجالية، بل زادتها تعقيدا، ولم تحصن المغرب من الحراك، ولجأت الدولة للخيار السياسي للتعاطي مع زخم حركة 20 فبراير، وخرجت بذكاء وحكمة من دائرة المجهول.

السؤال الذي نطرحه اليوم، مصيري، مثل مصيرية رهان الدولة على نموذج تنموي لا ندري حدود فعاليته ونجاعته. بالأمس، وضعت الدولة خارطة طريقها، فبدأت بما تبدأ به الدول العاقلة المريدة: بـ»مصالحة» لطي صفحة الماضي، ثم شخصت الوضع بطريقتها ورهانها على من تختار من النخب، فأنتجت «تقرير الخمسينية»، وحددت سمات “المغرب الممكن”، ورهاناته الاستراتيجية، لكنها سرعان ما دخلت مع أحداث 16 ماي 2003 في معادلة صعبة ضببت عليها التصور، وأدخلت معامل الأمن في مشاكسة مع متطلبات الإدماج السياسي وضرورات التقدم في مسار حقوق الإنسان، وحاولت بعض النخب جرها لنماذج من الهيمنة والاستئصال، وكادت تباشير العهد الجديد تسقط مع تجربة “حزب الدولة”، لولا أن حركت رياح الربيع الإقليمي ذكاء الدولة وحكمتها من جديد، وانتهت إلى مصيرية “الخيار السياسي” مع خطاب 9 مارس.

السؤال المصيري الذي نطرحه، ليس هو  قدرة النموذج التنموي على إخراج المغرب من الأزمة، بل مدى قدرته على الصمود ومواجهة التحولات العنيدة، من غير معادلة سياسية صلبة، تخلق شروط صعود نخب قوية مستقلة عن الدولة، قادرة على المساهمة من موقعها في حل الأزمة أو منع الأزمة من إنتاج كوارثها، ضمن عقد سياسي جدي، يذهب إلى مداه،  ويعبر عن التلاحم التاريخي بين الإرادتين الملكية والشعبية. الدولة اليوم، تعترف بأنها لوحدها عاجزة عن الجواب عن التحديات التي يواجهها المغرب، وتنادي بـ»عقد اجتماعي جديد» يضمن انخراط الجميع: الدولة ومؤسساتها، والقوى الحية للأمة، من قطاع خاص، وهيئات سياسية ونقابية، ومنظمات جمعوية، وعموم المواطنين. لكن، النجاح في مثل هذه الرهانات التشاركية الضرورية، تتطلب نخبا قوية، مستقلة عن الدولة، ناصحة وقادرة على الاقتراح، وقطاعا خاصا وطنيا  منتجا لا يغتني عن طريق اقتصاد الريع والامتيازات والإعفاء الضريبي والاتجار بالدولة مع الدولة، كما يتطلب من جهة أخرى، أن يتوسع هذا العقد، ليشمل الجانب السياسي الذي يوفر شرط بناء مسار ديمقراطي جدي، تكون الإرادة الشعبية محددة لقواعده، ولا يسمح فيه لتكتيكات النخب بالتلاعب بمساره.

النظرة الاستشرافية، بل حتى الاحتمالية الرياضية، تقول، إن الضرورة تقتضي تصحيح المسار، وتقوية النموذج الديمقراطي، حتى يؤسس الشروط الضرورية لنجاح أي خيارات استراتيجية، أو على الأقل، يوفر شروطا أخرى للاستقرار، في حال ما كانت التحولات الدولية والإقليمية والمؤشرات الاقتصادية الداخلية غير مشجعة لإحداث تحول كبير يحقق نسبا كبرى في الأهداف الثلاثة الاستراتيجية المرفوعة.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي