يونس مسكين يكتب.. السم في السمن

05 أغسطس 2019 - 18:01

أيقظتنا صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية، صباح يوم الجمعة الماضي، على دوّي قنبلة عنقودية من حجم القنابل التي اعتادت الدولة العبرية إمطار الأطفال الفلسطينيين بها، حين أخبرتنا، نقلا عن مصدرها من داخل الإدارة الأمريكية، بأن صهر الرئيس الأمريكي وكبير مستشاريه، جاريد كوشنر، قد حلّ بالمغرب رفقة فريق عمله.

وزادت الصحيفة الإسرائيلية أن كوشنر التقى ولي العهد الإماراتي، محمد بن زايد، إلى جانب وزير الخارجية العماني، يوسف بن علوي بن عبد الله… كل ذلك في غياب أي تأكيد أو نفي لحدوث هذه اللقاءات، بل حتى لوجود هؤلاء المسؤولين الأجانب أصلا في المغرب.

كل ما بلغ لدينا مرتبة اليقين (المهني) من هذه «الإسرائيليات»، كان حدوث زيارتين طارئتين لكل من وزيري خارجية الأردن وسلطة عمان، يوم الخميس الماضي، أي في نهاية الجولة التي قام بها كوشنر في المنطقة. أما زيارة كوشنر للمغرب، فباستثناء ما قالته الصحيفة الإسرائيلية، وحديث بعض المصادر المتحفظ عن مرور سريع وغير مبرمج مسبقا للمسؤول الأمريكي بالرباط، لم يصدر أي تأكيد رسمي أو شبه رسمي لذلك، لكن لا شك أنه «لا نار دون دخان»، كما يقول المثل.

يهمنا أكثر في هذه الروايات ما تعنيه من تحوّل المغرب، في لحظة معينة، إلى شبه عاصمة لصنع القرار الدولي بشأن واحد من أكثر الملفات تعقيدا وحساسية لدى مراكز القوى العالمية. وإذا أضفنا إلى ذلك توقيت حصول هذه التحركات، أي خلال احتفالات المملكة بذكرى عيد العرش؛ فإننا نكاد نصل إلى اليقين من تحوّل الأجندة الدبلوماسية والعلاقات الخارجية إلى أولوية في اتخاذ القرارات الاستراتيجية الكبرى، والتي قد تجعل الشؤون الداخلية مجرد تفاصيل تحكمها هذه الأجندة الخارجية.

فمنذ انطلاق الخروج الدبلوماسي الكبير للمغرب، بعد سنوات من الانكفاء على شؤونه الداخلية، باتت بعض الأوساط السياسية والنخبوية تتداول فرضية مفادها أن المسار السياسي الداخلي، بكل ما يتضمنه من إصلاحات ومشروع انتقال ديمقراطي، تدحرج في سلّم الأولويات، وأن دوائر القرار باتت تراهن أكثر على إقامة تحالفات إقليمية ودولية، ولعب أوراق القوة الناعمة للمغرب. أي أن الاستقرار وتحصين «الدولة»، في نظر البعض، بات مصدره خارجيا، ولم يعد بالضرورة مرتبطا بترسيخ الخيار الديمقراطي والتفاعل مع التحولات الداخلية.

لا مجال هنا لأي محاولة لتأويل هذا التحليل على أنه تشكيك في نوايا المؤسسة الملكية وإخلاصها للمصلحة الوطنية في تحركاتها الخارجية، بما أن الحقل الدبلوماسي مجال محفوظ للملك. فقد قلناها هنا مرارا ونكررها: من حسن حظ المغرب أن المؤسسة الحاكمة تتسم بخاصية تجعلها قادرة على استشراف التحولات الكبرى واستباقها بتحركات تحمي مصالح المغرب العليا.

لكن الواقع أننا في ظل ترهّل الطبقة السياسية والأحزاب والمنظومة المؤسساتية المنبثقة عن الدستور والانتخابات، باتت القوى المناهضة لأي إصلاح يحرمها من جناتها الريعية، تتبنى سلوكا شبيها ببعض المخلوقات التي تتعقب الأسود في البراري، حتى إذا أنهى «ملك الغابة» مهمته في تثبيت سيطرته على مجاله الخالص، والقضاء على التهديدات الخارجية وإطعام صغاره، تسللت الضباع وبعض أنواع الطيور الجارحة لتسرق نتف اللحم والجيف والعظام.

لا يمكن أي مغربي إلا أن يكون فخورا بما أبانت عنه دبلوماسية بلاده أخيرا من براغماتية، ولعب ذكي بأوراق المصالح الدولية وتناقضاتها، إلى الدرجة التي أصبحت معها خيوط اللعبة الدولية تلتقي في المغرب، كما حدث الأسبوع الماضي؛ لكن الخطر سيكون هائلا في حال اعتقد البعض أن ذلك يغني الدولة عن ربط القرار بالإرادة الشعبية، وتجرّع دواء الإصلاحات، وتوسيع الهامش الديمقراطي، وحماية الحريات، وتقوية الجبهة الداخلية عبر تداول السلطة بواسطة صناديق الاقتراع…

إن أي إيحاء بكون ضبط «الحسابات» مع واشنطن وأوروبا وأصدقاء الخليج وكبرى المؤسسات المالية الدولية، عبر منح هذه امتيازا لغويا، وتلك منافع اقتصادية، والأخرى صفقات تسلّح… سيمنع أي تهديد للنظام السياسي، مهما ارتفعت أصوات الاحتجاج والحنق داخليا؛ سيكون ضربا من الوهم والنسيان السريع لسلوك هذه القوى كلها عندما اهتزت الأرض تحت أرجل القذافي وبوتفليقة والبشير… بل إن اللاعبين الجدد في المسرح الدولي، ممن باتوا يمسكون بخيوط القرارات، هم على شاكلة جاريد كوشنر، أي تجار يشترون صباحا ثم يبيعون في المساء.

في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، واجه السلطان العثماني، عبد الحميد الثاني، سيلا من المؤامرات الأجنبية، وأكبر ما كان يتهدّد حكم السلطان عبد الحميد، بل وجود إمبراطوريته، هو مؤامرات القوى الخارجية التي اعتقد في لحظة ما أنه تمكن من استرضائها، واللعب على تناقضاتها وضرب بعضها بالبعض الآخر (فرنسا بألمانيا مثلا)، لكنها انتهت بمحاصرته بين فكي الكماشة، ما جعل السلطان العثماني يقول قولته الشهيرة: «فوق خبز العدو شيء من السمن»، أي أنه خبز شديد الإغراء.

المشكلة الأكبر هي أن السمن الذي يضعه الأجنبي طعما، ويقدمه سواء للنظام أو لخصومه، غالبا ما يخالطه بعض السم، حتى إذا فشلت المحاولة، كان مجديا في تسميم الدولة المستهدفة من الداخل. وخير وسيلة لدرء هذا الخطر، هي تقوية المناعة الداخلية بالمزيد من الديمقراطية والتماسك والعدالة والإنصاف، فهذه عملات قادرة على تحمّل الصدمات وامتصاص الضربات، عكس تحالفات وحسابات تجار الخارج، فهم قد يبيعون غدا ما اشتروه اليوم، وإن بدت صفقاتهم مربحة، ومغرية كالسمن.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي